القبيلة قبل الشهادة.. قراءة تحليلية لدور القبيلة الموريتانية في تعيين الوزراء وحماية المفسدين
عبد الله البو ولد أحمد عبدو
عندما حلّت موريتانيا في المرتبة 112 على قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم، بحسب منظمة الشفافية العالمية، خرج وزراء الحكومة في تظاهرات ضد الفساد، جابت شوارع العاصمة، في مشهد رآه كثيرون مثيراً للسخرية والتهكم. وعلّق المدوّنون والناشطون في شبكات التواصل الاجتماعي على هذا الحدث الفريد مرددين: الفساد يتظاهر ضد نفسه في نواكشوط. فالوزراء والمسؤولون الذين تظاهروا، رافعين شعارات مناهضة الفساد، هم أنفسهم من يتولى تسيير القطاعات الحكومية. وهذا ما جعل أحد المدونين يقترح عنواناً للتظاهرات: “الحكومة تتظاهر (أنّها) ضد الفساد.”
القبيلة قبل الشهادة: المحظوظون جينياً
في موريتانيا، ليست مؤهلاتك العلمية أو خبرتك المهنية أو مهاراتك المعرفية هي التي ترسم ملامح مستقبلك على الأرجح، بل العامل الأكثر أهمية هو القبيلة التي تنتسب إليها. وستجد مستقبلك في كثير من الأحيان، مرهوناً بتعيين أحد أبناء قبيلتك في منصب وزاري أو وظيفة سامية في الحكومة. حينها فقط يمكن أن يكون لشهاداتك العلمية معنى وأهمية. وهكذا يجد الكثير من الشباب الموريتانيين أنفسهم، بعد أن أنهوا دراستهم الجامعية المتخصصة، مضطرين إلى ممارسة مهن يدوية، أو التطفل على أعمال لا علاقة لها بمسارهم الدراسي، غالباً ما تكون ضعيفة المردود المادي، وغير مضمونة المستقبل. وذلك فقط لأنهم ليس لهم علاقة أو صلة قرابة بقبيلة ما. ويجد آخرون أنفسهم في وظائف مريحة معنوياً ومربحة مادياً، ليس بفضل ذكائهم أو تحصيلهم العلمي المميز، إنما نتيجة انتسابهم عرقياً لقبائل قوية النفوذ والتأثير، أو لصلتهم الأسرية والاجتماعية بمسؤولين حكوميين، أو ضباط كبار في الجيش، أو بالبيروقراطية الإدارية التي ورثتها البلاد من عهد الاحتلال الفرنسي، ولا يزال نفوذها قائماً إلى اليوم. ورغم إعلان السياسة الرسمية للحكومة عن السعي إلى ترسيخ مبدأ “تكافؤ الفرص”، وإجراء مسابقات توظيف واكتتاب، وُصفت “بالشّفافة والنزيهة”، ما زالت القبيلة تطلّ برأسها في كل مناسبة، لتمارس تأثيرها وضغطها. فالأنظمة الحاكمة، المتعاقبة على البلاد، تعيد نسج التحالفات القبلية والعرقية والجهوية، بما يخدم بقاءها واستمرارها. ويجري ذلك غالباً، بإبرام اتفاقات ضمنية بين الحاكم وممثلي هذه القبائل. في هذا الإطار، يرى الدكتور محمد ولد بوعليبه أن “الأنظمة السياسية المتلاحقة تمسكت بهذه القيم والممارسات الموروثة عن الاستعمار، فجعلت من المحاصصة والتوازنات القبلية والفئوية أداة استقرار للأنظمة، بدل اعتماد آليات وأساليب في الحكم تفضي إلي استقرارٍ أساسُه التنمية والعدالة”. وقال ولد بوعليبه إن المحاصصة تبقى في نهاية المطاف “لغماً يهدد وجود الدولة ووحدة شعبها، وعائقاً في وجه التنمية”. وأوضح: “المحاصصة تغيب الأساليب الكفيلة ببناء دولة حديثة، تختفي فيها أو تميل إلى الاختفاء، تلك التراتبيات الاجتماعية التي غيبت شرائح عريضة من المجتمع عن ممارسة حقها في المواطنة الكاملة، كما غيبت الكفاءة وقيم النزاهة في تسيير الشأن العام. ونمت في ظل هذه المحاصصة منذ عهد الاستعمار، أبشع المظاهر المعيقة للتنمية كالرشوة والزبونية والمحسوبية، فلم تعد الوظائف السامية ومراكز القرار ذات التأثير على مصير الدولة إلا قطعاً من الكعك، يوزعها الحاكم وفق مبدأ مقايضة الولاء بالسلطة والنفوذ، إذ لا عبرة بالكفاءة”.
ديمقراطية القبائل
ويعتقد الكثيرون في موريتانيا أن البلاد تعيش في الوقت الراهن العصر الذهبي للقبلية، في ثوبها السياسي على الأقل. فاستفادت القبائل بشكل لافت من الوضع السياسي القائم، لتشكيل تحالفات كبرى ومجموعات ضغط قوية داخل الدوائر الحكومية والبرلمان والمجلس التشريعي، والمجالس المحلية، ومجالات التجارة والأعمال والاستثمارات، لفرض أجندتها ومصالحها وخطابها السياسي والجهوي. بل أصبحت القبائل اليوم تمتلك وسائل إعلام الكترونية، وصفحات ومجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي، يتابعها الآلاف، ويغذيها مدوّنون من أبناء القبيلة يسهرون على بث الدعاية لتكريس صورة القبيلة وتمجيد تاريخها. ويقول المدوّن حسين عمر إن “هناك الكثير من الحالات التي يتجسد فيها التدخل السافر للقبيلة في قرارات الحكومات المختلفة، والتي تكون غالباً مزيجاً من أشخاص يعيّنهم جنرالات أو رجال أعمال، لتمرير أعمالهم عبر المصالح الحكومية، ووزراء ومدراء آخرين يتم تعيينهم تلبية لرغبة زعماء العشائر. هكذا تجري تركيبة الحكومات الموريتانية المختلفة، أما الحديث عن الشخص المناسب في المكان المناسب فلا يعدو كونه نكتة في قاموس الأنظمة الانقلابية المتعاقبة”. ويعدّد عُمَر التأثيرات السلبية لممارسات القبيلة، ومن بينها: “إعاقة تنفيذ القانون، منع معاقبة المجرمين المنتمين إليها، ممارسة الضغط على المسؤولين لتعيين أشخاص في مناصب لا يستحقونها، تشجيع الاغتصاب والتحرش، من خلال حماية مرتكبيه من المساءلة القانونية، وذلك بتسوية هذه النزاعات بالوساطات القبلية…”.