مقالات

غزي الأركاب

المفكر الراحل محمد يحظيه ولد ابريد الليل

(غزي الأركاب) هو الاسم الشعبي الذي أعطي للوفود التي شاركت في مؤتمر سكان غرب الصحراء الكبرى، الذي استدعاه الشيخ ماء العينين في “اصماره”.

افتتح الشيخ ماء العينين هذا التجمع يوم 20 مارس 1906م. كان الهدف الوحيد هو تدارس أحسن طريقة لتنسيق ومتابعة وتنشيط المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي على امتداد غرب الصحراء الكبرى بأكمله. كان نداء الشيخ ماء العينين قد جاء بمئات المشاركين.

استمر مقام الوفود في “اصماره” 37 يوما. وكان الشيخ ماء العينين قد استدعى، في السنة الموالية، دورة ثانية لهذا المؤتمر العام، في اصماره، وفعلا افتتحت الدورة يوم 28 يونيو 1907.

حضرت الشخصيات التالية: أمير الحوض، أعل ولد أمحيميد، أمير إدوعيش، عثمان ولدبكار، أمير لبراكنه، أحمد ولد سيد أعلي، الأخوان : أحمد ولد الديد وسيدي ولد سيدي،أمير آدرار الشاب، سيد أحمد وأحمد ولد عيده.

ورؤساء القبائل المعروفة تقليديا بأهل السلاح كانوا يُعَدُّون بالعشرات. على سبيل المثال لا الحصر: سيد أحمد ولد هيبه رئيس أولاد أعلي بن عبد الله (كركل)، المختار ولد أحمد رئيس إدوعيش (لعصابة)، الكوري ولد امبارك وأحمد سالم ولد المختارأَمُّ وأعلي سالم من أولاد دمان، زعامات أولاد عمني وأولاد آكشار، سيد أحمد ولد مكيه، ووفد كبير من أولاد غيلان، رؤساء عديدون من إديشلي على تنوعهم، محمد ولد أعلي ولد أحمد رئيس أولاد الـلَّبْ، اصنيب ولد ببكر رئيس أولاد أحمد، وفد من لِعْلِبْ، وغيرهم وغيرهم.

ولكن يجب أن لا نخطئ بأن نقول: لم يكن هناك إلا رجال الحرب.! فالواقع أن أصحاب الكتب والمعرفة تدافعوا بالمئات. وعلى سبيل المثال: الشيخ أحمد ولد الشيخ المهدي وقومه من تنواجيو، الشيخ سيد المختار ولد الشيخ القاضي ووفده من اجـيـجـبـه، عبد الرحمن ولد متالي وعلماء وقضاة كثر من تندغه، “تاشمشت إكيدي” وعلى رأسهم الشيخ سيديا ولد الشيخ أحمدو ولد اسليمان، وسيديا ولد قطرب، محمد المختار ولد حامد ووفد “كـنـتـه” الذين يجمعون تقليديا بين السلاح والكتب، محمد محمود ولد سيد المختار رئيس أهل سيد محمود وجماعته وبأيديهم البنادق والأقلام، وسادة المعرفة تجكانت يتقدمهم أولاد ما يابى وأولاد البيضاوي.

إديبسات وعلى رأسهم الشيخ الغزواني ومحمد المختار ولد أحمد زيدان ومحمد ولد الطالب ولد الخليل، ووفد اسماسيد على رأسه سيديا ولد سيدي باب، وأهل باركلل وعلى رأسهم محمد ولد عبد العزيز ولد الشيخ محمد المامي، وكان عبد الدائم من بين ممثلي تاكاط، وكان عبد الرحمن ولد عبد الودود والدادَّه من بين وفد أهل الحاج، وكان محمد بيب ولد عبد الرحمن على رأس مسومه، ومحمد أحيد ولد محم على رأس تركز، ومحفوظ ولد بداه على رأس “إدكـجـمـل”والطالب أعمر ولد مكيٌ على رأس لمتونه. أما حراس الشعر العربي إدابلحسن، فكانوا عديدين ومن بينهم: أبناء أحمذي ومحمدو ولد الفالي وأحمد ولد مكني وآخرين.

وكذلك حضر ممثلو أشراف تيشيت وولاته والنعمة، كما حضر وفد من إدوعلي برئاسة محمد أحيد ولد الحاج إبراهيم و آخرون من أهل اتفغ الخطاط ومدلش وإديقب وأولاد أبيري من بطون مختلفة.

أما الأقلال وأهل الساحل (الرقيبات، وأولاد أدليم، و أولاد بالسباع، و العروصيين، و أولاد تيدرارين، وتكنه) فيصعب ذكر أسمائهم لكثرة عددهم.

ومهما يكن من أمر فإنه من شبه المستحيل ذكر أسماء ألف وأربعمائة شخصية.

هناك قبائل لم يخطر ببال أحد أن بإمكانهم مساندة حركة مسلحة تحمسوا للمقاومة المسلحة وأشعارهم الملتهبة ما زالت تشهد على ذلك الموقف النبيل، بل أكثر من ذلك فإنهم حملوا السلاح بشجاعة. من الأمثلة الشهيرة المعركة التي خاضها أهل متالي ضد رتل العقيد “كورو” قرب “يغرف” حوالي مائة كلومتر شمال أكجوجت حيث نزحوا من أرضهم الأصلية انواكشوط عندما احتلها كبلاني مبكرا.

مؤتمري اصماره هذين كانا الأول والأخير الذين عقدهما كل ممثلي سكان غرب الصحراء الكبرى. وعلاوة على ذلك فإنهما لم يقتصرا على البيظان “العرب” بل إن طوارق ازاواد تم تمثيلهم بوفد ضم مائتي شخصية.

إذا كان الرجل الذي قضى حياته في المقاومة عابدين ول الشيخ سيد المختار الكنتي، لم يحضر فإن ذلك مرده إلى كون الدفاع عن أرضه أزواد قد احتكر وقته.

حقا، إن التاريخ شهد حركة شاملة هزت غرب الصحراء الكبرى بأكمله، ألا وهي سابقة المرابطين. ولكن حركة المرابطين لم تكن بهذه العفوية وتخللها بعض القهر بالسلاح وربما افتقرت أحيانا، إلى العمق الثقافي. ومهما يكن فإن حركة المرابطين في البداية هدفها عقائدي – بالمعنى العام- وهو التأصيل والتوعية بالمبادئ الدينية الصحيحة داخل رباط لا يدخله إلا من تمت تزكيته.

إلا أن الحركة، فيما بعد، انحرفت عن منطلقها الأصلي وأصيبت بعقوق منظريها المثقفين، وأصبحت حركة فتح سياسية تقليدية من أجل تأسيس امبراطورية.

من غير المتفق عليه أن المؤسس العظيم لامبراطورية المرابطين، يوسف بن تاشفين اللمتوني، هو أكثر تعمقا في الثقافة من رائد الحركة الأمير يحي بن إبراهيم الإكدالي، الذي لم يُخفِ عنه أهل المدينة المنورة إبان حجه، أن لديه ثغرات بينة في المجال الديني وأنه من المناسب، بل من الملح نظرا لمكانته أن ينتبه للبحث عن معلم لشعبه، إذا كان هو نفسه، كما يقول، من بين أكثرهم أو هو أكثرهم بالأحرى إلماما بالمعرفة الدينية.

المقاومة هي حركة عامة ذات طابع وطني في مجتمع يمكن القول إنه مثقف بل عالم بالنسبة لزمانه ومحيطه. النساء الشاعرات في هذا المجتمع كثيرات، وكذلك أستاذات المحاظر. وحتى الراعيات كان بإمكان بعضهن التوسع في موضوع لاهوتي بشكل محترم. راعي الإبل الأمي المشهور “لبيخيري” (تصغير البخاري) كان من الشعراء الملهمين في القرن التاسع عشر.

السيف الذي تحكم وتَسيَّدَ مدة قرون تراجع حده ولم يعد هو المهيمن المرتِّبُ، والصراع بين القلم والسيف خَفَتَ صوته منذ “شرببه”. ولكن ليس بالطريقة التي نظنها. إن القلم هو الذي انتصر. إن بعض الانتصارات التكتيكية تتحول أحيانا إلى هزائم استراتيجية وتلك الهزائم هي الأسوأ. المهزومون في “تنيفظاظ” صاروا، استراتيجيا، هم المنتصرين.

خلال القرون اللاحقة، يبدو أن بريق القيم الحربية قد تبدد إلى حد ما. علينا أن لا نستخلص، بتسرع، معتمدين على التباس، أن استعمال القوة قد زال. نعني هنا القيم في المجتمع، والمكانة المتبادلة أو الترتيب بين المعرفة والسلاح.

بعد “شرببه” هناك جماعات عديدة وفي كل مكان من غرب الصحراء الكبرى تنازلت عن سلاحها دون أن تكون مرغمة بإنذار أو تهديد. وبالمقابل كانت القبائل التي حملت السلاح محدودة وغالبا بشكل مؤقت وتحت إملاء الحاجة، عندما تكون مهددة. هناك فقط قبيلة أو اثنتان تخلتا عن كتبهما وعانقتا السلاح.

إن تجربة الشيخ سيديا في القرن التاسع عشر، برهنت على أن المعرفة تصدرت الأمور الأخرى. كونه تمكن من جمع أربعة أمراء – وكان ذلك أيضا من أجل مواجهة الخطر الفرنسي القادم من الجنوب – يبين بوضوح أن ممارسة السلطة لم تعد تقاس بميزان القوة المسلحة وإنما تتطلب نَفَسَا طويلا يتخلله التفكير الديالكتيكي المفعم بمعرفة التاريخ.

المكانة التي احتلها الشيخ ماء العينين، منعطف القرن العشرين، في الأذهان وعلى ألسنة الناس، رسخت بشكل لا يقبل الجدال تفوق الذهن على السيف.

كان الشيخ ماء العينين قد انتصب، في الوهلة الأولى، عند المحاولات الماكرة للتسلل الاستعماري ولم تعد حياته إلا للدفاع عن أرضه وصيانتها من كل رجس أجنبي.

خطر الاستعمار الزاحف لا يخفي على رجل مثقف، يعرف التاريخ ويتابع تطور المنطقة العربية بأكملها.

يعرف أن الاستعمار سيطر في الجزائر وفي تونس، وما أقربهما. في عودته من الحج ، عام 18588م، مكث في مصر لمدة ستة أشهر وخاصة في الاسكندرية والتقى بشخصيات مرموقة من المحيط الثقافي والاجتماعي، وكانت له معهم نقاشات وحوارات مثمرة. ولكنه قضى معظم وقته، في الاسكندرية، داخل المكتبات للمطالعة، ونعرف السهولة الفائقة والموهبة المدهشة التي يَحْظَى بها في المطالعة.

عند مجيئه إلى تيرس زار العالمَ الكبير محمد ولد محمد سالم، والذي كان عمره تجاوز آنذاك التسعين سنة، وطلب مؤلفاته المعروفة بالكثافة، وعددها واحد وعشرون، وبعد ثلاثة أيام انتهى من مطالعتها التامة. من يصدق؟ فقط بعد سفره لوحظ أنه لم تبق صفحة إلا وقد أشر في هامشها بقلمه (الخفيف).

لشدة وعيه بالخطر والتهديدات التي تحوم حول المنطقة فإنه قد أمر مبكرا، عام 1881م، بتدمير المركز الذي أقامه الإنجليز في الطرفاية (رأس جوبي) وفي عام 1885م وجه أيضا بتدمير مركز إسباني شيد بالداخلة.

كل ضعف وكل ميول زائد للتجارة والمبادلات مع الأوروبيين سيقود إلى السيطرة الاستعمارية، وأسوأ الأوروبيين في رأيه هم الفرنسيون الذين يتسللون من كل اتجاه.

كان الشيخ ماء العينين يواجه الخطر في أقل الظروف ملاءمة.

في الشمال كان يعتمد على المخزن المغربي وهو عارضة خشبية متعفنة ولكن ليس هناك اختيار، هذا كل ما تبقى. لم يسأم من تشجيع وتحفيز السلاطين المتتاليين وتنشيط ورفع معنوياتهم المتهاوية. كل الجهود باءت بالفشل. السلطنة منخورة. صار على اتصال بهؤلاء السلاطين وهو شاب عمره 288 سنة. تعرف على مولاي عبد الرحمن بن هشام وهو على العرش، ثم محمد الرابع والحسن الأول ومولاي عبد العزيز ومولاي حفيظ، معترفين كلهم بميزاته وخصاله النادرة الرفيعة فإنهم يتعاملون معه باحترام وتقدير كزعيم اسمى منهم، ولكنه لم يتمكن من اقناعهم بالقفز في المقاومة أو بضرورة إسعافه بالدعم اللازم في الرسالة المقدسة التي نذر لها نفسه. ليس بينهم من حسم هذا الاختيار النهائي كما فعل هو منذ اليوم الأول: إما النصر وإما الشهادة.

في السابق كان الورع مولاي عبد الرحمن، في سنة 1844م، قد واجه القوات الاستعمارية الفرنسية في محاولة لدعم الأمير عبد القادر الجزائري. كان ولي العهد سيدي محمد، الذي سيعرف فيما بعد بلقب محمد الرابع هو الذي يقود النجدة المغربية. كان الجيش المغربي تنقصه المهنية والتسليح. فواجه في تلك الحالة جيشا فرنسيا يقوده الجنرال بيجو الذي حصل على نصر حاسم. فكانت كارثة “إسلي” التي أشرت نهائيا على خروج المغرب من ساحة الكبار في دائرة المتخاصمين للبحر الأبيض المتوسط وانخفاض درجته وتقهقره داخل لائحة الدول التابعة المرشحة للاستعمار. إذا كان الشيخ ماء العينين لديه قلق في الشمال فهو في الجنوب، أي الأساس، يعيش مأساة. فهناك، عند بزوغ القرن العشرين بدأت الماكنة الجهنمية تشتغل ضد البيضان وبالشكل غير المواتي الذي يمكن تصوره.

عتبة البلاد الجنوبية، إمارة الترارزه، نظامها السياسي مختل نتيجة للتدخلات المستمرة من طرف فرنسا بواسطة مستعمرتها السنغالية. منذ وفاة محمد الحبيب فالصراعات الداخلية مستمرة بين الطامعين المتعددين في منصب الإمارة، الشيء الذي وفر للدولة الاستعمارية مسرحا مثاليا منالنزاعات والمنافسة أصبحت به في آخر المطاف هي الحكم في اللعبة ومكنها من اتقان المناورة وأحيانا بإذكاء الحقد، وتارة أخرى بتشجيع ثأر ماحق بين المتصارعين مقابل المال إذا تطلب الأمر..

ميزانيات الأمراء تأتي أساسا من “الحقوق” على تجارة الصمغ التي تسددها الدولة الاستعمارية الموجودة في اندر. أي أمير يتم التحايل أو التباطؤ على حقوقه يصبح عاجزا عن الحفاظ على حكمه وسيطرته على إمارته، وهو شيء يشبه إلى حدما حالة السلطة الفلسطينية اليوم عندما تمتنع إسرائيل عن تحويل الضرائب غير المباشرة التي تحصلها من أجل تلك السلطة، لا يوجد شيء يرغمها على أن لا تفعل. إن هذا التكتيك قد يكون هو الذي اتبعته فرنسا مع أعمر سالم وسيدي ولد سيدي، كل بدوره.

عندما عبرت القوات الاستعمارية النهر لم تجد هناك سلطة واحدة، معترفا بها، قادرة على القيام بمقاومة منظمة. أمام العدو الواحد لم يبق هناك، عمليا، إلا مبادرات ذات طابع قبلي. إن أولاد أحمد بن دمان، مع تشرذمهم لم يبق لديهم إلا هالتهم الحربية التاريخية ولكن دون الغطاء الشكلي للإمارة. كان أولاد دمان، بدورهم، يواجهون العدو في معارك بطولية ولا شك بدون الإطار الجماعي الواسع، ،. وكان هذا ما حصل للعلب وأولاد البوعلية والرحاحلة وغيرهم. كانت أشياء كثيرة ناقصة، سوى الشجاعة والحزم. ولكن لكي تكون الشجاعة والحزم عوامل حاسمة ومؤثرة في المعارك لابد من الوسائل وتجميع القوى وانتظام تسلسلي في الخندق.

أمام وضع كهذا لم ينتظر أحد شيئا سوى، رباطة الجأش النبيلة والتضحية شبه اليائسة. إن الترارزه لم يبق لديهم ما يقدمونه إلا الأخلاق العسكرية المجردة ومروءتهم أو رجولتهم أمام المدافع الرشاشة من طراز 12-7 والمدافع بعيدة المدى وبكلمة واحدة الموت المحقق.

حالة الترارزة كانت فريدة نتيجة للحوار الخانق للعدو وعملياته النفسية والسرية منذ ثلاثين سنة وقرب مراكزه العسكرية الأمامية.

حالة البراكنة كانت مشابهة إلى حد كبير، مع نقص في وفرة المنافسين الراغبين في اعتلاء سدة الحكم الأميري مهما كلف الثمن، منذ أن استتب الأمر لسيد أعلي الثاني.

الأمير الحاكم أحمدُّ الثاني لم يتهاون وخاض معارك مشرفة هو وابنه الشجاع، ولد عساس.

ومهما يكن من أمر، عندما ينهار سد كبير فمن الطبيعي أن يُخشى على السدود الواقعة على سافلة النهر. والواقع أن سد الترارزه والبراكنة انهار مع نهاية السنة 1903.

أما إيدوعيش فما زال يحكمهم المرهوب بكار ولد اسويد أحمد الذي يجمع بين القيمة الحربية والسخاء الأسطوري.

ولكن بكار هو صرح من القرن السابق والناس في الخيام، إبان السهرات الليلية حول النار الموقدة، يتساءلون على طول وعرض غرب الصحراء الكبرى هل هو زاد فقط على 90 سنة أم أنه بالفعل تجاوز 100سنة.

هذا الرجل، بهذه السن وبهذه الشهرة، هو الذي سيقتله غدرا، عام 1905م، رجال المستعمر كبولاني الذي يقدم نفسه أنه “مسالم”.

آدرار، في تلك الفترة، كان، نظريا، بين يدي الطفل سيد أحمد ولد أحمد ولد عيده الذي لم يصل بعد إلى سن رشد الرجال في زمانه – وهي 15 سنة – ولا يعرف عنه شيء كبير لسبب دامغ وهو أنه لم يتكشف بعد.

هذا البروز لن يتأخر كثيرا وبشكل مفرقع، ولكن إبان الحقبة الحاسمة الممتدة بين1900م و 1905م كانت التوقعات محشورة بين التقديرات والشائعات. كل ما هو معروف لدى الناس هو أن تربية الطفل تركت لرعاية دار الشيخ ماء العينين، وأن الابن ينام بين أبناء الشيخ الجليل وأنه يتلقى نفس التربية. ومن المظنة أن لا تتسرَّب لذهنه روح الانهزامية.

تمكن الشيخ ماء العينين، في ذلك السياق التاريخي الميؤوس منه، في تلك الأوقات الصعبة، أن ينال تلك القامة وتلك المكانة التي لن يبارحها عند معاصريه وعند الأجيال اللاحقة.

لم يكن من السهل التحكم من النفس داخل جو مفعم بالأخطار والريب من كل اتجاه. هذا الوقت بالضبط هو الذي ابان فيه وبسط كل الفضل وكل العلو الذين يميزان الرجل ذا المكانة وذا التربية الرفيعتين.

إن التهديدات والخسائر لم تميع ولم تهز يوما واحدا إرادة هذا الرجل الذي بلغ 75 سنة وهو واثق كل الثقة في عدالة قضيته ومؤمن كل الإيمان أن السيادة لا يمكن التنازل عنها.

هذه الثقة بالنفس هي التي قهرت قلوب الرجال.

الشيخ ماء العينين هو وحده في غرب الصحراء الكبرى الذي تمتع بالنفوذ والتاثير الكافيين ليجذب على ظهور المواشي أو سيرا على الأقدام، عبر آلاف الكيلومترات.

الأمراءَ المسنين المتعودين على إصدار الأوامر القاطعة وشيوخ الطرق الذين تبدأ علاقتهم مع الآخرين بتقبيل أيديهم والعلماء الذين عودهم التفكير على الهدوء ونبذ الولع بالتوافه والتجمعات الصاخبة.

بفضل صدقه وحزمه وشجاعته فرض نفسه كقائد بلا منازع على هذا الفضاء الصحراوي، باسطا نفوذه من الداخلة إلى تينبكتو ومن اندر إلى كليميم. لم يوجد منذ 1062، أي منذ ظهور يوسف بنتاشفين، من حصل على هذه الهالة من النفوذ والاعتبار على هذه المفازات الشاسعة الجافة.

لن يتعجب أحد من كون الفرنسيين منحوه بكل صدق هذا الإطراء “عدونا العنيد، في الشمال، ماء العينين، أخطر خصومنا في موريتانيا، الذي ينظم المقاومة ضدنا انطلاقا من زاويته في الساقية الحمراء….”

في الحياة العادية هناك. أشياء مجانية، والشيخ كان يعرف معانقة هذا اللطف الساحر الذي لا يضاهيه لطف: حب الجميع وخدمة الكل.

ولكن التاريخ ليس فيه شيء مجاني، هناك فقط الاستحقاق. الشيخ ماء العينين استحق تسلق الجدران الوعرة لمعبد العز الخالد.

هذا التراث المعنوي، هذا الإرث غير المادي للمقاومة المجيدة الذي تركه الشيخ ماء العينين والشهداء الذين سبقوه ورافقوه وعقبوه وجميع المقاومين الذين قضوا نحبهم الآن جميعا هو من مصادر الفخر القليلة المتاحة للأجيال الحالية والقادمة.

إن الأبنية والإنجازات المادية تنتهي بالزوال. حتى أبو الهول فإنه فقد قطعة من شكله الأصلي. ما هو حال قلعة نينوى التي ترجع إلى النمرود، في العهود التاريخية القديمة؟ حالها كان سيئا قبل أربعين سنة. ما ترك منها قصف الغربيين؟

ليس هناك في البقاء والخلود ما يضاهي المجد، لأنه لا يشيد باللبنات والحجارة والحديد.

مقر المجد هو في قلوب وأذهان الرجال. إنه لا يتحطم. نسيان الذات وحده، قبل النسيان العادي هو الذي يدمره. قرن من السيطرة والصمت المطبق ما زال يهدد مكانة المقاومة.

مهمة رجال اليوم الذين هم ورثتها والمستفيدون منها هي الحفاظ على هذا المشعل الذي يضيئنا عندما يكون كل شيء مظلما.

بقلم الأستاذ: محمد يحظيه ولد ابريد الليل#غـزي_الأركــاب:

(غزي الأركاب)هو الاسم الشعبي الذي أعطي للوفود التي شاركت في مؤتمر سكان غرب الصحراء الكبرى، الذي استدعاه الشيخ ماء العينين في “اصماره”.

افتتح الشيخ ماء العينين هذا التجمع يوم 20 مارس 1906م. كان الهدف الوحيد هو تدارس أحسن طريقة لتنسيق ومتابعة وتنشيط المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي على امتداد غرب الصحراء الكبرى بأكمله. كان نداء الشيخ ماء العينين قد جاء بمئات المشاركين.

استمر مقام الوفود في “اصماره” 37 يوما. وكان الشيخ ماء العينين قد استدعى، في السنة الموالية، دورة ثانية لهذا المؤتمر العام، في اصماره، وفعلا افتتحت الدورة يوم 28 يونيو 1907.

حضرت الشخصيات التالية: أمير الحوض، أعل ولد أمحيميد، أمير إدوعيش، عثمان ولدبكار، أمير لبراكنه، أحمد ولد سيد أعلي، الأخوان : أحمد ولد الديد وسيدي ولد سيدي،أمير آدرار الشاب، سيد أحمد وأحمد ولد عيده.

ورؤساء القبائل المعروفة تقليديا بأهل السلاح كانوا يُعَدُّون بالعشرات. على سبيل المثال لا الحصر: سيد أحمد ولد هيبه رئيس أولاد أعلي بن عبد الله (كركل)، المختار ولد أحمد رئيس إدوعيش (لعصابة)، الكوري ولد امبارك وأحمد سالم ولد المختارأَمُّ وأعلي سالم من أولاد دمان، زعامات أولاد عمني وأولاد آكشار، سيد أحمد ولد مكيه، ووفد كبير من أولاد غيلان، رؤساء عديدون من إديشلي على تنوعهم، محمد ولد أعلي ولد أحمد رئيس أولاد الـلَّبْ، اصنيب ولد ببكر رئيس أولاد أحمد، وفد من لِعْلِبْ، وغيرهم وغيرهم.

ولكن يجب أن لا نخطئ بأن نقول: لم يكن هناك إلا رجال الحرب.! فالواقع أن أصحاب الكتب والمعرفة تدافعوا بالمئات. وعلى سبيل المثال: الشيخ أحمد ولد الشيخ المهدي وقومه من تنواجيو، الشيخ سيد المختار ولد الشيخ القاضي ووفده من اجـيـجـبـه، عبد الرحمن ولد متالي وعلماء وقضاة كثر من تندغه، “تاشمشت إكيدي” وعلى رأسهم الشيخ سيديا ولد الشيخ أحمدو ولد اسليمان، وسيديا ولد قطرب، محمد المختار ولد حامد ووفد “كـنـتـه” الذين يجمعون تقليديا بين السلاح والكتب، محمد محمود ولد سيد المختار رئيس أهل سيد محمود وجماعته وبأيديهم البنادق والأقلام، وسادة المعرفة تجكانت يتقدمهم أولاد ما يابى وأولاد البيضاوي.

إديبسات وعلى رأسهم الشيخ الغزواني ومحمد المختار ولد أحمد زيدان ومحمد ولد الطالب ولد الخليل، ووفد اسماسيد على رأسه سيديا ولد سيدي باب، وأهل باركلل وعلى رأسهم محمد ولد عبد العزيز ولد الشيخ محمد المامي، وكان عبد الدائم من بين ممثلي تاكاط، وكان عبد الرحمن ولد عبد الودود والدادَّه من بين وفد أهل الحاج، وكان محمد بيب ولد عبد الرحمن على رأس مسومه، ومحمد أحيد ولد محم على رأس تركز، ومحفوظ ولد بداه على رأس “إدكـجـمـل”والطالب أعمر ولد مكيٌ على رأس لمتونه. أما حراس الشعر العربي إدابلحسن، فكانوا عديدين ومن بينهم: أبناء أحمذي ومحمدو ولد الفالي وأحمد ولد مكني وآخرين.

وكذلك حضر ممثلو أشراف تيشيت وولاته والنعمة، كما حضر وفد من إدوعلي برئاسة محمد أحيد ولد الحاج إبراهيم و آخرون من أهل اتفغ الخطاط ومدلش وإديقب وأولاد أبيري من بطون مختلفة.

أما الأقلال وأهل الساحل (الرقيبات، وأولاد أدليم، و أولاد بالسباع، و العروصيين، و أولاد تيدرارين، وتكنه) فيصعب ذكر أسمائهم لكثرة عددهم.

ومهما يكن من أمر فإنه من شبه المستحيل ذكر أسماء ألف وأربعمائة شخصية.

هناك قبائل لم يخطر ببال أحد أن بإمكانهم مساندة حركة مسلحة تحمسوا للمقاومة المسلحة وأشعارهم الملتهبة ما زالت تشهد على ذلك الموقف النبيل، بل أكثر من ذلك فإنهم حملوا السلاح بشجاعة. من الأمثلة الشهيرة المعركة التي خاضها أهل متالي ضد رتل العقيد “كورو” قرب “يغرف” حوالي مائة كلومتر شمال أكجوجت حيث نزحوا من أرضهم الأصلية انواكشوط عندما احتلها كبلاني مبكرا.

مؤتمري اصماره هذين كانا الأول والأخير الذين عقدهما كل ممثلي سكان غرب الصحراء الكبرى. وعلاوة على ذلك فإنهما لم يقتصرا على البيظان “العرب” بل إن طوارق ازاواد تم تمثيلهم بوفد ضم مائتي شخصية.

إذا كان الرجل الذي قضى حياته في المقاومة عابدين ول الشيخ سيد المختار الكنتي، لم يحضر فإن ذلك مرده إلى كون الدفاع عن أرضه أزواد قد احتكر وقته.

حقا، إن التاريخ شهد حركة شاملة هزت غرب الصحراء الكبرى بأكمله، ألا وهي سابقة المرابطين. ولكن حركة المرابطين لم تكن بهذه العفوية وتخللها بعض القهر بالسلاح وربما افتقرت أحيانا، إلى العمق الثقافي. ومهما يكن فإن حركة المرابطين في البداية هدفها عقائدي – بالمعنى العام- وهو التأصيل والتوعية بالمبادئ الدينية الصحيحة داخل رباط لا يدخله إلا من تمت تزكيته.

إلا أن الحركة، فيما بعد، انحرفت عن منطلقها الأصلي وأصيبت بعقوق منظريها المثقفين، وأصبحت حركة فتح سياسية تقليدية من أجل تأسيس امبراطورية.

من غير المتفق عليه أن المؤسس العظيم لامبراطورية المرابطين، يوسف بن تاشفين اللمتوني، هو أكثر تعمقا في الثقافة من رائد الحركة الأمير يحي بن إبراهيم الإكدالي، الذي لم يُخفِ عنه أهل المدينة المنورة إبان حجه، أن لديه ثغرات بينة في المجال الديني وأنه من المناسب، بل من الملح نظرا لمكانته أن ينتبه للبحث عن معلم لشعبه، إذا كان هو نفسه، كما يقول، من بين أكثرهم أو هو أكثرهم بالأحرى إلماما بالمعرفة الدينية.

المقاومة هي حركة عامة ذات طابع وطني في مجتمع يمكن القول إنه مثقف بل عالم بالنسبة لزمانه ومحيطه. النساء الشاعرات في هذا المجتمع كثيرات، وكذلك أستاذات المحاظر. وحتى الراعيات كان بإمكان بعضهن التوسع في موضوع لاهوتي بشكل محترم. راعي الإبل الأمي المشهور “لبيخيري” (تصغير البخاري) كان من الشعراء الملهمين في القرن التاسع عشر.

السيف الذي تحكم وتَسيَّدَ مدة قرون تراجع حده ولم يعد هو المهيمن المرتِّبُ، والصراع بين القلم والسيف خَفَتَ صوته منذ “شرببه”. ولكن ليس بالطريقة التي نظنها. إن القلم هو الذي انتصر. إن بعض الانتصارات التكتيكية تتحول أحيانا إلى هزائم استراتيجية وتلك الهزائم هي الأسوأ. المهزومون في “تنيفظاظ” صاروا، استراتيجيا، هم المنتصرين.

خلال القرون اللاحقة، يبدو أن بريق القيم الحربية قد تبدد إلى حد ما. علينا أن لا نستخلص، بتسرع، معتمدين على التباس، أن استعمال القوة قد زال. نعني هنا القيم في المجتمع، والمكانة المتبادلة أو الترتيب بين المعرفة والسلاح.

بعد “شرببه” هناك جماعات عديدة وفي كل مكان من غرب الصحراء الكبرى تنازلت عن سلاحها دون أن تكون مرغمة بإنذار أو تهديد. وبالمقابل كانت القبائل التي حملت السلاح محدودة وغالبا بشكل مؤقت وتحت إملاء الحاجة، عندما تكون مهددة. هناك فقط قبيلة أو اثنتان تخلتا عن كتبهما وعانقتا السلاح.

إن تجربة الشيخ سيديا في القرن التاسع عشر، برهنت على أن المعرفة تصدرت الأمور الأخرى. كونه تمكن من جمع أربعة أمراء – وكان ذلك أيضا من أجل مواجهة الخطر الفرنسي القادم من الجنوب – يبين بوضوح أن ممارسة السلطة لم تعد تقاس بميزان القوة المسلحة وإنما تتطلب نَفَسَا طويلا يتخلله التفكير الديالكتيكي المفعم بمعرفة التاريخ.

المكانة التي احتلها الشيخ ماء العينين، منعطف القرن العشرين، في الأذهان وعلى ألسنة الناس، رسخت بشكل لا يقبل الجدال تفوق الذهن على السيف.

كان الشيخ ماء العينين قد انتصب، في الوهلة الأولى، عند المحاولات الماكرة للتسلل الاستعماري ولم تعد حياته إلا للدفاع عن أرضه وصيانتها من كل رجس أجنبي.

خطر الاستعمار الزاحف لا يخفي على رجل مثقف، يعرف التاريخ ويتابع تطور المنطقة العربية بأكملها.

يعرف أن الاستعمار سيطر في الجزائر وفي تونس، وما أقربهما. في عودته من الحج ، عام 18588م، مكث في مصر لمدة ستة أشهر وخاصة في الاسكندرية والتقى بشخصيات مرموقة من المحيط الثقافي والاجتماعي، وكانت له معهم نقاشات وحوارات مثمرة. ولكنه قضى معظم وقته، في الاسكندرية، داخل المكتبات للمطالعة، ونعرف السهولة الفائقة والموهبة المدهشة التي يَحْظَى بها في المطالعة.

عند مجيئه إلى تيرس زار العالمَ الكبير محمد ولد محمد سالم، والذي كان عمره تجاوز آنذاك التسعين سنة، وطلب مؤلفاته المعروفة بالكثافة، وعددها واحد وعشرون، وبعد ثلاثة أيام انتهى من مطالعتها التامة. من يصدق؟ فقط بعد سفره لوحظ أنه لم تبق صفحة إلا وقد أشر في هامشها بقلمه (الخفيف).

لشدة وعيه بالخطر والتهديدات التي تحوم حول المنطقة فإنه قد أمر مبكرا، عام 1881م، بتدمير المركز الذي أقامه الإنجليز في الطرفاية (رأس جوبي) وفي عام 1885م وجه أيضا بتدمير مركز إسباني شيد بالداخلة.

كل ضعف وكل ميول زائد للتجارة والمبادلات مع الأوروبيين سيقود إلى السيطرة الاستعمارية، وأسوأ الأوروبيين في رأيه هم الفرنسيون الذين يتسللون من كل اتجاه.

كان الشيخ ماء العينين يواجه الخطر في أقل الظروف ملاءمة.

في الشمال كان يعتمد على المخزن المغربي وهو عارضة خشبية متعفنة ولكن ليس هناك اختيار، هذا كل ما تبقى. لم يسأم من تشجيع وتحفيز السلاطين المتتاليين وتنشيط ورفع معنوياتهم المتهاوية. كل الجهود باءت بالفشل. السلطنة منخورة. صار على اتصال بهؤلاء السلاطين وهو شاب عمره 288 سنة. تعرف على مولاي عبد الرحمن بن هشام وهو على العرش، ثم محمد الرابع والحسن الأول ومولاي عبد العزيز ومولاي حفيظ، معترفين كلهم بميزاته وخصاله النادرة الرفيعة فإنهم يتعاملون معه باحترام وتقدير كزعيم اسمى منهم، ولكنه لم يتمكن من اقناعهم بالقفز في المقاومة أو بضرورة إسعافه بالدعم اللازم في الرسالة المقدسة التي نذر لها نفسه. ليس بينهم من حسم هذا الاختيار النهائي كما فعل هو منذ اليوم الأول: إما النصر وإما الشهادة.

في السابق كان الورع مولاي عبد الرحمن، في سنة 1844م، قد واجه القوات الاستعمارية الفرنسية في محاولة لدعم الأمير عبد القادر الجزائري. كان ولي العهد سيدي محمد، الذي سيعرف فيما بعد بلقب محمد الرابع هو الذي يقود النجدة المغربية. كان الجيش المغربي تنقصه المهنية والتسليح. فواجه في تلك الحالة جيشا فرنسيا يقوده الجنرال بيجو الذي حصل على نصر حاسم. فكانت كارثة “إسلي” التي أشرت نهائيا على خروج المغرب من ساحة الكبار في دائرة المتخاصمين للبحر الأبيض المتوسط وانخفاض درجته وتقهقره داخل لائحة الدول التابعة المرشحة للاستعمار. إذا كان الشيخ ماء العينين لديه قلق في الشمال فهو في الجنوب، أي الأساس، يعيش مأساة. فهناك، عند بزوغ القرن العشرين بدأت الماكنة الجهنمية تشتغل ضد البيضان وبالشكل غير المواتي الذي يمكن تصوره.

عتبة البلاد الجنوبية، إمارة الترارزه، نظامها السياسي مختل نتيجة للتدخلات المستمرة من طرف فرنسا بواسطة مستعمرتها السنغالية. منذ وفاة محمد الحبيب فالصراعات الداخلية مستمرة بين الطامعين المتعددين في منصب الإمارة، الشيء الذي وفر للدولة الاستعمارية مسرحا مثاليا منالنزاعات والمنافسة أصبحت به في آخر المطاف هي الحكم في اللعبة ومكنها من اتقان المناورة وأحيانا بإذكاء الحقد، وتارة أخرى بتشجيع ثأر ماحق بين المتصارعين مقابل المال إذا تطلب الأمر..

ميزانيات الأمراء تأتي أساسا من “الحقوق” على تجارة الصمغ التي تسددها الدولة الاستعمارية الموجودة في اندر. أي أمير يتم التحايل أو التباطؤ على حقوقه يصبح عاجزا عن الحفاظ على حكمه وسيطرته على إمارته، وهو شيء يشبه إلى حدما حالة السلطة الفلسطينية اليوم عندما تمتنع إسرائيل عن تحويل الضرائب غير المباشرة التي تحصلها من أجل تلك السلطة، لا يوجد شيء يرغمها على أن لا تفعل. إن هذا التكتيك قد يكون هو الذي اتبعته فرنسا مع أعمر سالم وسيدي ولد سيدي، كل بدوره.

عندما عبرت القوات الاستعمارية النهر لم تجد هناك سلطة واحدة، معترفا بها، قادرة على القيام بمقاومة منظمة. أمام العدو الواحد لم يبق هناك، عمليا، إلا مبادرات ذات طابع قبلي. إن أولاد أحمد بن دمان، مع تشرذمهم لم يبق لديهم إلا هالتهم الحربية التاريخية ولكن دون الغطاء الشكلي للإمارة. كان أولاد دمان، بدورهم، يواجهون العدو في معارك بطولية ولا شك بدون الإطار الجماعي الواسع، ،. وكان هذا ما حصل للعلب وأولاد البوعلية والرحاحلة وغيرهم. كانت أشياء كثيرة ناقصة، سوى الشجاعة والحزم. ولكن لكي تكون الشجاعة والحزم عوامل حاسمة ومؤثرة في المعارك لابد من الوسائل وتجميع القوى وانتظام تسلسلي في الخندق.

أمام وضع كهذا لم ينتظر أحد شيئا سوى، رباطة الجأش النبيلة والتضحية شبه اليائسة. إن الترارزه لم يبق لديهم ما يقدمونه إلا الأخلاق العسكرية المجردة ومروءتهم أو رجولتهم أمام المدافع الرشاشة من طراز 12-7 والمدافع بعيدة المدى وبكلمة واحدة الموت المحقق.

حالة الترارزة كانت فريدة نتيجة للحوار الخانق للعدو وعملياته النفسية والسرية منذ ثلاثين سنة وقرب مراكزه العسكرية الأمامية.

حالة البراكنة كانت مشابهة إلى حد كبير، مع نقص في وفرة المنافسين الراغبين في اعتلاء سدة الحكم الأميري مهما كلف الثمن، منذ أن استتب الأمر لسيد أعلي الثاني.

الأمير الحاكم أحمدُّ الثاني لم يتهاون وخاض معارك مشرفة هو وابنه الشجاع، ولد عساس.

ومهما يكن من أمر، عندما ينهار سد كبير فمن الطبيعي أن يُخشى على السدود الواقعة على سافلة النهر. والواقع أن سد الترارزه والبراكنة انهار مع نهاية السنة 1903.

أما إيدوعيش فما زال يحكمهم المرهوب بكار ولد اسويد أحمد الذي يجمع بين القيمة الحربية والسخاء الأسطوري.

ولكن بكار هو صرح من القرن السابق والناس في الخيام، إبان السهرات الليلية حول النار الموقدة، يتساءلون على طول وعرض غرب الصحراء الكبرى هل هو زاد فقط على 90 سنة أم أنه بالفعل تجاوز 100سنة.

هذا الرجل، بهذه السن وبهذه الشهرة، هو الذي سيقتله غدرا، عام 1905م، رجال المستعمر كبولاني الذي يقدم نفسه أنه “مسالم”.

آدرار، في تلك الفترة، كان، نظريا، بين يدي الطفل سيد أحمد ولد أحمد ولد عيده الذي لم يصل بعد إلى سن رشد الرجال في زمانه – وهي 15 سنة – ولا يعرف عنه شيء كبير لسبب دامغ وهو أنه لم يتكشف بعد.

هذا البروز لن يتأخر كثيرا وبشكل مفرقع، ولكن إبان الحقبة الحاسمة الممتدة بين1900م و 1905م كانت التوقعات محشورة بين التقديرات والشائعات. كل ما هو معروف لدى الناس هو أن تربية الطفل تركت لرعاية دار الشيخ ماء العينين، وأن الابن ينام بين أبناء الشيخ الجليل وأنه يتلقى نفس التربية. ومن المظنة أن لا تتسرَّب لذهنه روح الانهزامية.

تمكن الشيخ ماء العينين، في ذلك السياق التاريخي الميؤوس منه، في تلك الأوقات الصعبة، أن ينال تلك القامة وتلك المكانة التي لن يبارحها عند معاصريه وعند الأجيال اللاحقة.

لم يكن من السهل التحكم من النفس داخل جو مفعم بالأخطار والريب من كل اتجاه. هذا الوقت بالضبط هو الذي ابان فيه وبسط كل الفضل وكل العلو الذين يميزان الرجل ذا المكانة وذا التربية الرفيعتين.

إن التهديدات والخسائر لم تميع ولم تهز يوما واحدا إرادة هذا الرجل الذي بلغ 75 سنة وهو واثق كل الثقة في عدالة قضيته ومؤمن كل الإيمان أن السيادة لا يمكن التنازل عنها.

هذه الثقة بالنفس هي التي قهرت قلوب الرجال.

الشيخ ماء العينين هو وحده في غرب الصحراء الكبرى الذي تمتع بالنفوذ والتاثير الكافيين ليجذب على ظهور المواشي أو سيرا على الأقدام، عبر آلاف الكيلومترات.

الأمراءَ المسنين المتعودين على إصدار الأوامر القاطعة وشيوخ الطرق الذين تبدأ علاقتهم مع الآخرين بتقبيل أيديهم والعلماء الذين عودهم التفكير على الهدوء ونبذ الولع بالتوافه والتجمعات الصاخبة.

بفضل صدقه وحزمه وشجاعته فرض نفسه كقائد بلا منازع على هذا الفضاء الصحراوي، باسطا نفوذه من الداخلة إلى تينبكتو ومن اندر إلى كليميم. لم يوجد منذ 1062، أي منذ ظهور يوسف بنتاشفين، من حصل على هذه الهالة من النفوذ والاعتبار على هذه المفازات الشاسعة الجافة.

لن يتعجب أحد من كون الفرنسيين منحوه بكل صدق هذا الإطراء “عدونا العنيد، في الشمال، ماء العينين، أخطر خصومنا في موريتانيا، الذي ينظم المقاومة ضدنا انطلاقا من زاويته في الساقية الحمراء….”

في الحياة العادية هناك. أشياء مجانية، والشيخ كان يعرف معانقة هذا اللطف الساحر الذي لا يضاهيه لطف: حب الجميع وخدمة الكل.

ولكن التاريخ ليس فيه شيء مجاني، هناك فقط الاستحقاق. الشيخ ماء العينين استحق تسلق الجدران الوعرة لمعبد العز الخالد.

هذا التراث المعنوي، هذا الإرث غير المادي للمقاومة المجيدة الذي تركه الشيخ ماء العينين والشهداء الذين سبقوه ورافقوه وعقبوه وجميع المقاومين الذين قضوا نحبهم الآن جميعا هو من مصادر الفخر القليلة المتاحة للأجيال الحالية والقادمة.

إن الأبنية والإنجازات المادية تنتهي بالزوال. حتى أبو الهول فإنه فقد قطعة من شكله الأصلي. ما هو حال قلعة نينوى التي ترجع إلى النمرود، في العهود التاريخية القديمة؟ حالها كان سيئا قبل أربعين سنة. ما ترك منها قصف الغربيين؟

ليس هناك في البقاء والخلود ما يضاهي المجد، لأنه لا يشيد باللبنات والحجارة والحديد.

مقر المجد هو في قلوب وأذهان الرجال. إنه لا يتحطم. نسيان الذات وحده، قبل النسيان العادي هو الذي يدمره. قرن من السيطرة والصمت المطبق ما زال يهدد مكانة المقاومة.

مهمة رجال اليوم الذين هم ورثتها والمستفيدون منها هي الحفاظ على هذا المشعل الذي يضيئنا عندما يكون كل شيء مظلما.

زر الذهاب إلى الأعلى