توب ريم: تعليق على بيان النيابة الأخير/ ذ. يعقوب السيف
…………………..
في الحقيقة، صيغ بيان وكالة الجمهورية بنواكشوط الغربية، المحرر بتاريخ 18/09/2024، بعناية فائقة توخت الإيحاء بعدم الطرفية، استحضارا لدرجة المتابعة والتبعية التي تحظى بها الأطراف، والاهتمام الخارجي بالموضوع.
ولأن العناية لا تضمن النتيجة بالضرورة، فإن لغة البيان تسمح، دون كبير عناء، بتحديد بوصلة مساره نحو مآلاته:
1-فى البيان عبارات:” بث ونشر أخبار، وإشاعات، حول حصول وقائع مخالفة للقانون”، وفى ذلك البث وما نشر من أخبار وشائعات ” تعرض لأشخاص وأماكن”، استخدم البيان “تَعَرُّضٍ ل …”، التي بمعنى “استهداف ل…”، بدل “التعريض ل” الذي يفيد خلاف التصريح، مع أن التورية عندما تتعلق بالقذف مجرمة كالتصريح به تماما.
حاصل تلك العبارات يحقق الوصف المقرر للقذف بمفهوم الأمر القانوني رقم :2006-017، بتاريخ 12 يوليو 2006، حول حرية الصحافة، المعدل ،الفصل السادس المتعلق بالجرائم والجنح المرتكبة من طرف الصحافة و من طرف أية وسيلة أخرى للنشر، في قسمه الثالث المتعلق بالجنح ضد الأشخاص، في (المادة 37) منه التي تعرفه بأنه:” كل أداء أو نشر لواقعة تلحق ضررا بشرف أو اعتبار الشخص او الهيئة اللذين تنسب لهما الواقعة”، وتعاقب النشر بالنسبة لذلك الادعاء أو التسمية:” … حتى ولو قيم بذلك على شكل ارتيابي أو إذا استهدف هيئة أو شخصا غير محدد صراحة يمكن التعرف عليه عن طريق مصطلحات الخطابات أو الرسومات أو الكتابات أو المطبوعات او الصور أو الملصقات محل التهمة…”
2-كون تحرك النيابة جاء:”… بعد تلقي شكايات من طرف من يرى نفسه متضررا …”، وليس على إثر تلقي إبلاغ، يؤكد التوجه السابق للخروج من طائلة قانون العقوبات، فلا يبقى من مجال للاتهام ب “الافتراء” بلغة (المادة 348 /ق. ع) في النسخة العربية، و ” dénonciation calomnieuse ” في النسخة الفرنسية للأمر القانوني 83-162، التي تعنى “الوشاية الكاذبة”؛ حيث المجرم جنائيا ليس مجرد وصف الشخص بما يسوء وليس فيه ” calomnie “، بل الوشاية ” dénonciation”.
3-“كشف حقيقة وملابسات تلك الأخبار والإشاعات” أضعف تعبير عن البحث في صحة الوقائع التي وردت في حديث المشكو منه، وإمعانا في تحجيم ذلك التعبير تتم العودة للشكاية من خلال توخى معرفة: “ما نشأ عن بثها”، والمؤكد أن المقصود هو ما ترتب على بثها للطرف الذي يرى نفسه متضررا.
4-أهداف البحث الابتدائي الذي أمرت به الضبطية القضائية “المختصة” !:-
-“الوقوف على الحقائق من خلال الأدلة والمثبتات القانونية “: تعبير سلبي لا يوجه البحث لجمع الأدلة حيث كانت، والتقصي بشأنها، بل يكاد يوجهه للوقوف عندما تقدمه الأطراف.
-“ليتحمل كل مسئول عن فعل مجرم ومعاقب جنائيا، مسئولية وتبعات تصرفاته” : مع أن “الأماكن ” بحكم حديث البيان عن طرفيتها، يصعب تصور نوعية الجزاء الذي يمكن ان يوقع عليها أو تستفيد من توقيعه على غيرها، لعدم تمتعها بالشخصية القانونية أصلا!
-“حماية للسكينة العامة، وأعراض المواطنين.”: حماية أعراض المواطنين معني بها بالأساس أولئك الذين منهم لحق بهم ضرر جراء :” بث ونشر أخبار، وإشاعات، حول حصول وقائع مخالفة للقانون”، لكن “السكينة العامة ” لا تخرج هي الأخرى عن نفس الدائرة ،بحكم مقتضيات (المادة 5) من القانون رقم :2020-015، بتاريخ:23 يوليو 2020 المتعلق بمكافحة التلاعب بالمعلومات، المتعلقة بنشر أنباء كاذبة ، والتي تنص على : “يعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين سنتين (2) وأربع (4) سنوات وبغرامة تتراوح بين خمسين ألف (50.000) أوقية ومائتي ألف (200.000) أوقية، كل من ينشر أو يستنسخ، بأي وسيلة كانت، أنباء كاذبة أو وثائق ملفقة أو مزورة منسوبة كذبا إلى أطراف ثالثة، بحيث تزعزع السكينة العامة أو من شأنها أن تزعزعها.” ، ويؤكد التبكير بالاستماع لأطراف ثالثة حول صحة ما نسب لها تلك الحقيقة.
في واقع وجود نوعية من الجرائم تمثل بحكم خطورتها تهديدا للكيان الجامع يتعين أن تتم مراجعة مصطلحات القذف والافتراء ونشر الأنباء الكاذبة، حتى يتاح للجميع أن يبلغ بما يتناهى إلى علمه عن تلك الجرائم، دون خشية من ان يكيف فعله تحت أي من تلك الصفات.
عمليا كون التبليغ المعاقب عدمه يدخل فيه التبليغ بالظني وقوعه من الجرائم وفق ما ورد في الفقرة الثانية من (المادة 56/ ق. ع).
وكون المبلغين يستفيدون من حماية خاصة تسهر عليها الدولة (المادة 19 /القانون رقم 2016-014، بتاريخ :15 إبريل 2016، المتعلق بمكافحة الفساد)، ومذهب المرسوم الذي ينظم الحماية الخاصة للشهود والخبراء والمبلغين وضحايا الفساد في عهده إلى وكيل الجمهورية لدى محكمة ولاية نواكشوط الغربية بإعداد لائحة بالمستفيدين من تلك الحماية وتبليغها لمصالح الأمن، مع “تحيينها كلما دعت الضرورة” بما يمثله من مراعاة لضرورة استفادة المبلغين الجدد من تلك الحماية، يعنى التبشير بعهد يضطلع في المجتمع مع أجهزته الأمنية بأدوار فعالة في محاصرة الجريمة.
التفريق بين القذف والافتراء ونشر الأخبار الكاذبة من ناحية، وأدوار المبلغين ومطلقي الإنذارات يمكن في معيار حسن النية الذي يقتضي تحققه:
-الابتعاد عن الفجور في التعابير والتحفظ عند انتقاء العبارات.
-غياب الخلاف الشخصي مع من يكون محل البث أو النشر، والحرص على التفريد وعدم إقحام غيرذي صلة فعلية بموضوع الحديث تحت أي ذريعة.
-شرعية الغاية من وراء إثارة الموضوع.
-جدية التحقيقات المقام بها مِن مَن تنسب له التعابير محل التهمة، وهي مسألة منفصلة عن صحة الحديث نفسه، حيث تتحقق بمجرد وجود تأسيسات قوية تشهد لها أنها لم تكن وليدة الصدفة، ولا اختيارا طوعيا لقول غير الحقيقة. بنى عليها ما أطلق من تهم، حتى ولو لم يمنعه ذلك من الوقوع في الغلط في النهاية.
-استحضار مساحة الدور المسموح به، وعدم التجاوز على أدوار الهيئات الرسمية محل التكليف القانوني كل في ما يعنيه.