وزير الثقافة.. رؤيتنا ترتكز على استثمار التنوع الثقافي وتحويله لمصدر قوة

توب ريم : شارك وزير الثقافة والفنون والاتصال والعلاقات مع البرلمان، السيد الحسين ولد مدو، اليوم، في أشغال اجتماع وزراء الثقافة في العالم الإسلامي، المنعقد بمدينة قازان بجمهورية تتارستان في روسيا الاتحادية، بحضور عدد من وزراء الثقافة، وممثلي منظمة الإيسيسكو ومنظمة التعاون الإسلامي، ومشاركة واسعة من الدول الأعضاء.
وفي كلمته بالمناسبة، أكد معالي الوزير على أن الثقافة تمثل أفقًا إنسانيًا جامعًا وملاذًا حضاريًا آمنًا، قادرًا على رأب الصدع وتعزيز قيم التعايش والتنوع، في عالم تتعالى فيه أصوات الصراع على حساب الحوار.
كما استعرض رؤية فخامة رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، التي جعلت من الحوار الثقافي والتعددية ركيزة أساسية في بناء لحمتها الاجتماعية، مبرزًا الدور الريادي للمحظرة الموريتانية، ومكانة المدن القديمة كمراكز إشعاع علمي وروحي عبر العصور.
وأكد معاليه أن موريتانيا، بحكم انتمائها العربي والإفريقي والإسلامي، تمثل همزة وصل ثقافية بين ضفتي العالم الإسلامي، مشيدًا بتسجيل المحظرة الموريتانية وملحمة “صمبا غلاديو” ضمن التراث الثقافي الإنساني، وكذا باعتماد اللغة السونوكية لغةً عابرة للحدود، تجسيدًا للتنوع الثقافي الغني.
واعتبر معالي الوزير ان الديبلوماسية الموريتانية تميزت بالاتزان المبدئي والانفتاح الهادئ، والحضور الدولي الحكيم.
واختتم الوزير كلمته بالتأكيد على أن الثقافة تبقى أداة فعالة لتعزيز السلام والتفاهم بين الشعوب، داعيًا إلى إطلاق مبادرات ثقافية مشتركة تُحصّن الشباب من التطرف، وتعزز الانتماء إلى القيم الإنسانية الجامعة.
وأعرب معاليه عن عميق شكر موريتانيا لروسيا الاتحادية على استضافتها الكريمة، ولجمهورية تتارستان على حسن التنظيم وكرم الضيافة، ونوه معبّرًا عن تطلع موريتانيا إلى مزيد من التعاون الثقافي في الفضاء الإسلامي والدولي.
يذكر أن هذه الاجتماع حضرته شخصيات ثقافية بارزة من بينها وزير الثقافة لروسيا الاتحادية والمدير العام لمنظمة الإيسسكو.
وفيما يلي نص خطاب معالي الوزير بالمناسبة:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
السيدة اولغا باليموفا وزيرة الثقافة بروسيا الاتحادية
السيد المدير العام لمنظمة الايسيسكو
السيد الامين العام لمنظمة التعاون الاسلامي
السادة وزراء الثقافة بدول العالم الاسلامي
أصحاب المعالي والسعادة والسيادة؛
أيها الحضور الكريم؛
نجتمع اليوم في لحظة تتزاحم فيها الأقطاب، وتتعالى فيها أصوات الصراع والصدام؛ بدل التنافس والحوار؛ غير أن الأمل يظل معقودًا على الثقافة، باعتبارها أفقًا إنسانيا جامعًا وملاذًا حضاريًا آمنا، يلمّ الشّتات، ويعيد للتعايش بريقه، وللتعدد رونقه، في عالم أضحى التعدد فيه ضرورة لا اختيارًا، والحوار قدرًا لا ترفًا.
إنها سانحة أن أحمل إليكم، بهذه المناسبة وعلى ضفاف قازان، مدينة التلاقي والتنوع، تحايا أرض المنارة والرباط، الجمهورية الإسلامية الموريتانية، التي شدّت رحالها اليوم إلى هذا المؤتمر، حاملة معها ذاكرة المحظرة، وعبق القوافل، ونداء التآخي الذي ما انفكّت تعيشه وتبثه ربوع شنقيط وساكنتها منذ عديد القرون.
أيها الجمع الكريم؛
يمثل الحوار بين الثقافات نبض الإنسانية حين تنصت إلى ذاتها في مرايا الآخر، إنه السبيل الأرقى لتجاوز صخب الاختلاف نحو وئام السلوك المشترك، أما التنوع فهو سر العالم الجميل البديع، ورونق وحدته العميقة، فمن لا يحرس تعدده، يُوشك أن يفقد جوهره، ومن لا يصغِي لغيره، يتيه عن نفسه.
إن الحوار الثقافي، في هذا العالم المعقد والمتشابك، يظل حجر الزاوية في بناء جسور الفهم والتواصل بين الشعوب، وتظل قيم التنوع والتعدد رافعة أساسية لصون السلم وتعزيز التعايش.
وقد أرست منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلم (اليونسكو) دعائم هذا التوجه، حين جعلت من “حماية التنوع الثقافي” التزامًا إنسانيًا مشتركًا، ومن “الحوار بين الثقافات” وسيلة لتجاوز الأحكام المسبقة وردم هوة النزاعات؛ لأن الثقافة،ليست ميراثًا جامدًا، لكنها طاقة خلاقة تتجدد بتلاقي التجارب وتثاقف الحضارات، ويغدو احترام الآخر، بكل ما يحمله من خصوصيات، شرطًا أوليًا في أي مشروع إنساني مشترك.
أيها الحضور الكريم!
إن موريتانيا، بانتمائها إلى فضاء اسلامي عربي إفريقي متنوع، قد جعلت من الحوار الثقافي سبيلاً لصيانة نسيجها الاجتماعي، وحماية فسيفسائها البشرية التي تتآلف فيها مكونات عربية وإفريقية، في تناغم أخوي وقور، وسكينة ما كان لها أن تكون لولا رسوخ تقاليد السلم، ورحابة صدور تعوّدت الإصغاء والتسامح.
لقد استبقت بلادنا الزمن، فراهنت على ثقافة التلاقي لا الإقصاء، وعلى ثنائية الانتماء والانفتاح معًا؛ فكانت قنطرة بين ضفتي العروبة وإفريقيا، وجسرا بين الشرق و الغرب، حتى استوت على منهجية متفردة، تستند إلى تراث المحظرة، وتتزود بروح العصر، وتحمل للآخر رسالة مفادها: إننا مختلفون نعم، لكننا متعايشون بإرادتنا، متحدون بقيمنا، متسامحون بفعل وعينا العميق بأن الهوية لا تكتمل إلا بتعدد روافدها وتنوع مكوناتها.
ومن هنا، فإن تعزيز الحوار الثقافي في عالمنا الإسلامي، وبينه وبقية عالمنا الإنساني، لم يعد، كما اسلفت، ترفًا فكريًا؛ بل أضحى واجب اللحظة، وقاطرة النجاة، وركيزة الأمن والاستقرار والتنمية، لا يقل شأنًا عن الجيوش والسلاح، لأن أكثر الحروب شراسة هي تلك التي تنشأ من جهل الآخر وسوء تأويل ثقافته.
أيها الجمع الكريم؛
إنني إذ أعبّر عن اعتزاز موريتانيا بالمشاركة في هذا المؤتمر، فإنني أهيب بكم، أصحاب المعالي والسعادة والسيادة، إلى إطلاق مبادرات ثقافية جامعة، تُرسخ التفاهم، وتُحصّن الشباب من التيارات العدمية، من جريمة وعنف وتطرف وإرهاب، وتُكرّس حوارًا دائمًا لا تفرضه المناسبات فقط؛ بل تقتضيه الحاجة الملحة لمستقبل زاهٍ آمن مشترك.
إننا نثمن عاليا حسن تنظيم هذا اللقاء ونتقدم بجزيل الشكر وعظيم الامتنان لروسيا الاتحادية على استضافتها الكريمة، كما نؤكد أن الثقافة تظلّ أنجع المسارات لتعزيز العلاقات بين الشعوب، وتوسيع آفاق التفاهم والتعايش بينها في زمن يمكن أن يصون كل طرف خصوصيته دون الاصطدام بالآخر.
إنه مبدأ ينسجم تماما مع رؤية فخامة رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، التي تجعل من “الوحدة في التنوع” إحدى ركائز البناء الوطني، وتقوم هذه الرؤية على مقاربة ثقافية شاملة تثمن التعدد، وتحوله إلى مصدر قوة وتماسك لا إلى عنصر تفرقة أو تنازع.
وقد تُرجمت هذه المقاربة من خلال مجموعة من الخطوات العملية، من أبرزها اعتماد يوم وطني للتنوع الثقافي يُخلّد سنوياً، تشارك فيه كافة المكونات الوطنية، بهدف تعزيز روح الانتماء الوطني المشترك، والاحتفاء بالتعدد اللغوي والتقليدي والفني الثري.
كما نجحت بلادنا في تسجيل “المحظرة الموريتانية” ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي لدى منظمة اليونسكو، اعترافًا بدورها في نقل العلوم الشرعية واللغوية، وفي تأصيل الوسطية والاعتدال، وفي ربط المجتمعات بالعلم والمعرفة منذ قرون.
وبنفس الروح، تم تسجيل ملحمة “صمبا غلاديو” على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي الإنساني، لما تحمله من قيم البطولة والانتماء والكرامة، ولما تعكسه من تداخل عضوي بين الموروث العربي والإفريقي، وهو ما يُجسّد الطابع العابر للحدود لثقافتنا المشتركة.
وفي ذات السياق تمكنا من اعتماد اللغة السونوكية لغة عابرة للدول .
وقد اتسمت ديبلوماسيتنا، كذلك، باتزانها المبدئي وانفتاحها الهادئ؛ حيث ظلت تنسج حضورها الدولي بخيوط الحكمة وتوازن المواقف. وهي، في كل المحافل، صوت عقلٍ يدعو إلى تغليب الحوار على الخصام، ونبذ العنف لصالح التفاهم، ويجعل من التسامح والتعايش طريقا لمسيرة عالم أكثر إنصافًا وأقل اصطدامًا. لقد ظلت ديبلوماسيتنا حاملة لرسالة الاعتدال، تنحاز للسلم حين يحتدم النزاع، وترافع من أجل الإنسان حين يُسلب صوته أو يُغتال تنوعه.
وحرصًا منا على إحياء إشعاعنا التاريخي، أولينا اهتمامًا خاصًا بـ المدن القديمة التي كانت لقرون طويلة مراكز إشعاع علمي وروحي، وشبكات تواصل ثقافي وتجاري؛ فمن عمق الصحراء وسكينة الرمال، نهضت مدائن تُتلى فيها الحكمة كما يُتلى الوحي، وتُحفظ فيها المعرفة كما تُحفظ الأرواح؛ لقد كانت شنقيط وتيشيت ووادان وولاتة رباعيات نور، خطّت بالمداد مصائر أجيال، وانطلقت منها قوافل العلماء تجوب أصقاع المعمورة، تحمل مضاء العقل ورسوخ الفقه وصفاء اللغة، ففي مكتباتها تنام نصوص نادرة، وفي محاظرها استيقظت قرون من الاجتهاد والتأليف والتصوف، هناك امتزج الرمل بالحرف، لينشأ إشعاع علمي ما زال صداه يتردد في فضاء الصحراء الكبرى ومن خلف البحار.
أيها الحضور الكريم؛
إننا نعمل اليوم على إعادة إدماج هذه الحواضر في الدورة الثقافية والتنموية من خلال برامج الصيانة والترميم، وإنشاء البنية التحتية، وتشجيع السياحة الثقافية، وتنظيم المهرجانات الوطنية والدولية.
وفي الختام، أُسجل مرة ثانية موفور امتنان بلادي لروسيا الاتحادية، ولقازان المضيافة، راجيًا لهذا اللقاء الميمون كل التوفيق والنجاح، ولسعينا الثقافي المشترك مزيدًا من النماء والازدهار.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.